تفسير سورة النحل الصفحة 277 من القرآن الكريم

تفسير الصفحة رقم 277 من المصحف


ٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ وَصَدُّوا۟ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ زِدْنَٰهُمْ عَذَابًا فَوْقَ ٱلْعَذَابِ بِمَا كَانُوا۟ يُفْسِدُونَ (88)


يقول تعالى ذكره: الذين جحدوا يا محمد نبوّتك وكذّبوك فيما جئتهم به من عند ربك، وصَدُّوا عن الإيمان بالله وبرسوله ، ومن أراده زدناهم عذابًا يوم القيامة في جهنم فوق العذاب الذي هم فيه قبل أن يزادوه. وقيل: تلك الزيادة التي وعدهم الله أن يزيدهموها عقارب وحيات.* ذكر من قال ذلك:حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن الأعمش، عن عبد الله بن مرّة، عن مسروق، عن عبد الله ( زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ ) قال: عقارب لها أنياب كالنخل.حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن الأعمش، عن عبد الله بن مرّة، عن مسروق، عن عبد الله مثله.حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو معاوية وابن عيينة، عن الأعمش، عن عبد الله بن مرّة، عن مسروق، عن عبد الله ( زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ ) قال: زيدوا عقارب لها أنياب كالنخل الطوال.حدثنا إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني، قال: ثنا جعفر بن عون، قال: أخبرنا الأعمش، عن عبد الله بن مرّة، عن مسروق، عن عبد الله، مثله.حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا ابن أبي عديّ، عن سعيد، عن سليمان، عن عبد الله بن مرّة، عن مسروق، عن عبد الله، نحوه.حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا إسرائيل، عن السدّي، عن مرّة، عن عبد الله، قال ( زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ ) قال: أفاعِيَ.حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا عبد الله، عن إسرائيل، عن السديّ، عن مرّة، عن عبد الله، قال: أفاعيَ في النار.حدثنا ابن وكيع ، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن رجل، عن مرّة، عن عبد الله، مثله.حدثنا مجاهد بن موسى والفضل بن الصباح، قالا ثنا جعفر بن عون، قال: أخبرنا الأعمش، عن مجاهد، عن عبيد بن عمير، قال: إن لجهنم جبابا فيها حيات أمثال البخت (1) وعقارب أمثال البغال الدهم، يستغيث أهل النار إلى تلك الجِباب أو الساحل، فتثب إليهم فتأخذ بشِفاههم وشفارهم إلى أقدامهم، فيستغيثون منها إلى النار، فيقولون: النارَ النارَ ، فتتبعهم حتى تجد حرّها فترجع، قال: وهي في أسراب.حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني حيي بن عبد الله، عن أبي عبد الرحمن الحبلي، عن عبد الله بن عمرو، قال: إن لجهنم سواحل فيها حيات وعقارب أعناقها كأعناق البخت.وقوله ( بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ ) يقول: زدناهم ذلك العذاب على ما بهم من العذاب بما كانوا يفسدون ، بما كانوا في الدنيا يعصُون الله ، ويأمرون عباده بمعصيته، فذلك كان إفسادهم، اللهم إنا نسألك العافية يا مالك الدنيا والآخرة الباقية.

وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِى كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَىٰ هَٰٓؤُلَآءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ ٱلْكِتَٰبَ تِبْيَٰنًا لِّكُلِّ شَىْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ (89)


يقول تعالى ذكره ( وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) يقول: نسأل نبيهم الذي بعثناه إليهم للدعاء إلى طاعتنا ، وقال ( مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) لأنه تعالى ذكره كان يبعث إلى أمم أنبياءها منها: ماذا أجابوكم، وما ردّوا عليكم ( وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاءِ ) يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وجئنا بك يا محمد شاهدا على قومك وأمتك الذين أرسلتك إليهم بما أجابوك ، وماذا عملوا فيما أرسلتك به إليهم. وقوله ( وَنزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ ) يقول: نزل عليك يا محمد هذا القرآن بيانا لكلّ ما بالناس إليه الحاجة من معرفة الحلال والحرام والثواب والعقاب (وَهُدًى) من الضلال (وَرَحْمَةً) لمن صدّق به، وعمل بما فيه من حدود الله ، وأمره ونهيه، فأحل حلاله ، وحرّم حرامه ( وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ) يقول: وبشارة لمن أطاع الله وخضع له بالتوحيد ، وأذعن له بالطاعة، يبشره بجزيل ثوابه في الآخرة ، وعظيم كرامته.وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.* ذكر من قال ذلك:حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن الزبير، عن ابن عيينة، قال: ثنا أبان بن تغلب، عن الحكم، عن مجاهد ( تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ ) قال: مما أحلّ وحرّم.حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن ابن عيينة، عن أبان بن تغلب، عن مجاهد، في قوله ( تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ ) مما أحلّ لهم وحرّم عليهم.حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن الأعمش، عن مجاهد، قوله ( تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ ) قال: ما أمر به، وما نَهَى عنه.حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، في قوله ( وَنزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ ) قال: ما أُمِروا به، ونهوا عنه.حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا محمد بن فضيل، عن أشعث، عن رجل، قال: قال ابن مسعود: أنزل في هذا القرآن كل علم وكلّ شيء قد بين لنا في القرآن. ثم تلا هذه الآية.

إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَٱلْإِحْسَٰنِ وَإِيتَآئِ ذِى ٱلْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَآءِ وَٱلْمُنكَرِ وَٱلْبَغْىِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)


يقول تعالى ذكره: إن الله يأمر في هذا الكتاب الذي أنزله إليك يا محمد بالعدل، وهو الإنصاف ، ومن الإنصاف: الإقرار بمن أنعم علينا بنعمته، والشكر له على إفضاله، وتولي الحمد أهله. وإذا كان ذلك هو العدل ، ولم يكن للأوثان والأصنام عندنا يد تستحقّ الحمد عليها، كان جهلا بنا حمدها وعبادتها، وهي لا تنعِم فتشكر ، ولا تنفع فتعبد، فلزمنا أن نشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولذلك قال من قال: العدل في هذا الموضع شهادة أن لا إله إلا الله.ذكر من قال ذلك : حدثني المثنى، وعلي بن داود، قالا ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ ) قال: شهادة أن لا إله إلا الله وقوله والإحسان ، فإن الإحسان الذي أمر به تعالى ذكره مع العدل الذي وصفنا صفته: الصبر لله على طاعته فيما أمر ونهى، في الشدّة والرخاء ، والمَكْرَه والمَنْشَط، وذلك هو أداء فرائضه.كما حدثني المثنى، وعليّ بن داود، قالا ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس ( وَالإحْسَانِ ) يقول: أداء الفرائض .وقوله ( وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى ) يقول: وإعطاء ذي القربى الحقّ الذي أوجبه الله عليك بسبب القرابة والرحم.كما حدثني المثنى وعلي، قالا ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس ( وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى ) يقول: الأرحام.وقوله ( وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ ) قال: الفحشاء في هذا الموضع: الزنا.* ذكر من قال ذلك:حدثني المثنى، وعليّ بن داود، قالا ثنا عبد الله بن صالح، عن عليّ، عن ابن عباس ( وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ ) يقول: الزنا. وقد بيَّنا معنى الفحشاء بشواهده فيما مضى قبل.وقوله ( والبَغْيِ) قيل: عُنِيَ بالبغي في هذا الموضع: الكبر والظلم.* ذكر من قال ذلك:حدثني المثنى، وعليّ بن داود، قالا ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس ( والبَغْيِ) يقول: الكبر والظلم.وأصل البغي: التعدّي ومجاوزة القدر والحدّ من كلّ شيء. وقد بيَّنا ذلك فيما مضى قبل.وقوله ( يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) يقول: يذكركم أيها الناس ربكم لتذكروا فتنيبوا إلى أمره ونهيه، وتعرفوا الحقّ لأهله.كما حدثني المثنى وعليّ بن داود، قالا ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس ( يَعِظُكُمْ) يقول: يوصيكم ( لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ).وقد ذُكر عن ابن عيينة أنه كان يقول في تأويل ذلك: إن معنى العدل في هذا الموضع استواء السريرة والعلانية من كلّ عامل لله عملا وإن معنى الإحسان: أن تكون سريرته أحسن من علانيته، وإن الفحشاء والمنكر أن تكون علانيته أحسن من سريرته.وذُكر عن عبد الله بن مسعود أنه كان يقول في هذه الآية، ما حدثني المثنى، قال: ثنا الحجاج، قال: ثنا معتمر بن سليمان، قال: سمعت منصور بن النعمان، عن عامر، عن شتَير بن شَكَل، قال: سمعت عبد الله يقول: إن أجمع آية في القرآن في سورة النحل ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى ) ... إلى آخر الآية.حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن الشعبيّ، عن سُتَيْر بن شَكَل، قال: سمعت عبد الله يقول: إن أجمع آية في القرآن لخير أو لشر، آية في سورة النحل ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ ) .... الآية.حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى ) ... الآية، إنه ليس من خلق حسن كان أهل الجاهلية يعملون به ويستحسنونه إلا أمر الله به، وليس من خُلق سيِّئ كانوا يتعايرونه بينهم إلا نهى الله عنه وقدّم فيه. وإنما نهى عن سفاسف الأخلاق ومَذامِّها.

وَأَوْفُوا۟ بِعَهْدِ ٱللَّهِ إِذَا عَٰهَدتُّمْ وَلَا تَنقُضُوا۟ ٱلْأَيْمَٰنَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ ٱللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91)


يقول تعالى ذكره: وأوفوا بميثاق الله إذا واثقتموه، وعقده إذا عاقدتموه، فأوجبتم به على أنفسكم حقا لمن عاقدتموه به وواثقتموه عليه ( وَلا تَنْقُضُوا الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا ) يقول: ولا تخالفوا الأمر الذي تعاقدتم فيه الأيمان، يعني بعد ما شددتم الأيمان على أنفسكم، فتحنثوا في أيمانكم وتكذبوا فيها وتنقضوها بعد إبرامها، يقال منه: وكَّد فلان يمينه يوكدها توكيدًا: إذا شددها وهي لغة أهل الحجاز، وأما أهل نجد، فإنهم يقولون: أكدتها أؤكدها تأكيدا. وقوله ( وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلا ) يقول: وقد جعلتم الله بالوفاء بما تعاقدتم عليه على أنفسكم راعيًا يرعى الموفى منكم بعهد الله الذي عاهد على الوفاء به والناقض.وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل على اختلاف بينهم فيمن عني بهذه الآية وفيما أنزلت، فقال بعضهم: عُنِيَ بها الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام، وفيهم أنزلت.* ذكر من قال ذلك:حدثني محمد بن عمارة الأسدي، قال: ثنا عبد الله بن موسى، قال: أخبرنا أبو ليلى، عن بريدة، قوله ( وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ ) قال: أنزلت هذه الآية في بيعة النبيّ صلى الله عليه وسلم، كان من أسلم بايع على الإسلام، فقالوا( وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ ) هذه البَيعة التي بايعتم على الإسلام ( وَلا تَنْقُضُوا الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا ) البيعة، فلا يحملكم قلة محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه وكثرة المشركين أن تنقضوا البيعة التي بايعتم على الإسلام، وإن كان فيهم قلة والمشركين فيهم كثرة.وقال آخرون: نزلت في الحِلْف الذي كان أهل الشرك تحالفوا في الجاهلية، فأمرهم الله عزّ وجلّ في الإسلام أن يوفّوا به ولا ينقضوه.* ذكر من قال ذلك:حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله تعالى ( وَلا تَنْقُضُوا الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا ) قال: تغليظها في الحلف.حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حُذيفة، قال: ثنا شبل وحدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله عن ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( وَلا تَنْقُضُوا الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا ) يقول: بعد تشديدها وتغليظها.حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: هؤلاء قوم كانوا حلفاء لقوم تحالفوا وأعطى بعضهم العهد، فجاءهم قوم، فقالوا: نحن أكثر وأعزّ وأمنع، فانقضوا عهد هؤلاء وارجعوا إلينا ففعلوا، فذلك قول الله تعالى ( وَلا تَنْقُضُوا الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلا ) أن تكون أمة هي أربى من أمة، هي أربَى أكثر من أجل أن كان هؤلاء أكثر من أولئك، نقضتم العهد فيما بينكم وبين هؤلاء، فكان هذا في هذا.حدثني ابن البَرقيّ، قال: ثنا ابن أبي مَريم، قال: أخبرنا نافع بن يزيد، قال: سألت يحيى بن سعيد، عن قول الله ( وَلا تَنْقُضُوا الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا ) قال: العهود.والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله تعالى أمر في هذه الآية عباده بالوفاء بعهوده التي يجعلونها على أنفسهم، ونهاهم عن نقض الأيمان بعد توكيدها على أنفسهم لآخرين بعقود تكون بينهم بحقّ مما لا يكرهه الله. وجائز أن تكون نزلت في الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بنهيهم عن نقض بيعتهم حذرا من قلة عدد المسلمين وكثرة عدد المشركين، وأن تكون نزلت في الذين أرادوا الانتقال بحلفهم عن حلفائهم لقلة عددهم في آخرين لكثرة عددهم، وجائز أن تكون في غير ذلك. ولا خبر تَثْبُت به الحجة أنها نزلت في شيء من ذلك دون شيء ؛ ولا دلالة في كتاب ولا حجة عقل أيّ ذلك عُنِيَ بها، ولا قول في ذلك أولى بالحق مما قلنا لدلالة ظاهره عليه، وأن الآية كانت قد نزلت لسبب من الأسباب، ويكون الحكم بها عامًّا في كلّ ما كان بمعنى السبب الذي نزلت فيه.حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد ( وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلا ) قال: وكيلا.وقوله ( إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ) يقول تعالى ذكره: إن الله أيها الناس يعلم ما تفعلون في العهود التي تعاهدون الله من الوفاء بها والأحلاف والأيمان التي تؤكدونها على أنفسكم، أتبرّون فيها أم تنقضونها وغير ذلك من أفعالكم، محص ذلك كله عليكم، وهو مسائلكم عنها وعما عملتم فيها، يقول: فاحذروا الله أن تلقوه وقد خالفتم فيها أمره ونهيه، فتستوجبوا بذلك منه ما لا قِبَل لكم به من أليم عقابه.

وَلَا تَكُونُوا۟ كَٱلَّتِى نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنۢ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَٰثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَٰنَكُمْ دَخَلًۢا بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِىَ أَرْبَىٰ مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ ٱللَّهُ بِهِۦ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92)


يقول تعالى ذكره ناهيا عباده عن نقض الأيمان بعد توكيدها، وآمرًا بوفاء العهود، وممثلا ناقض ذلك بناقضة غزلها من بعد إبرامه وناكثته من بعد إحكامه: ولا تكونوا أيها الناس في نقضكم أيمانكم بعد توكيدها وإعطائكم الله بالوفاء بذلك العهود والمواثيق ( كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ) يعني: من بعد إبرام. وكان بعض أهل العربية يقول: القوّة: ما غُزِل على طاقة واحدة ولم يثن. وقيل: إن التي كانت تفعل ذلك امرأة حمقاء معروفة بمكة.* ذكر من قال ذلك:حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني عبد الله بن كثير ( كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ) قال: خرقاء كانت بمكة تنقضه بعد ما تُبْرِمه.حدثنا المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن الزبير، عن ابن عيينة، عن صدقة، عن السديّ( وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ ) قال: هي خَرْقَاءُ بمكة كانت إذا أبرمت غزلها نقضته.وقال آخرون: إنما هذا مثل ضربه الله لمن نقض العهد، فشبهه بامرأة تفعل هذا الفعل. وقالوا في معنى نقضت غزلها من بعد قوة، نحوا مما قلنا.* ذكر من قال ذلك:حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا ) فلو سمعتم بامرأة نقضت غزلها من بعد إبرامه لقلتم: ما أحمق هذه! وهذا مثل ضربه الله لمن نكث عهده.حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد ( وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ) قال: غزلها: حبلها تنقضه بعد إبرامها إياه ولا تنتفع به بعد.حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء وحدثني المثنى، قال: ثنا أبو حُذيفة، قال: ثنا شبل، جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ) قال: نقضت حبلها من بعد إبرام قوّة.حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ( وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا ) قال: هذا مثل ضربه الله لمن نقض العهد الذي يعطيه، ضرب الله هذا له مثلا بمثل التي غزلت ثم نقضت غزلها، فقد أعطاهم ثم رجع، فنكث العهد الذي أعطاهم.وقوله ( أَنْكَاثًا ) يعني: أنقاضا، وكلّ شيء نُقِض بعد الفتل فهو أنكاث، واحدها: نكْث حبلا كان ذلك أو غزلا يقال منه: نَكَث فلان هذا الحبل فهو ينكُثُه نكثا، والحبل منتكِث: إذا انتقضت قُواه. وإنما عني به في هذا الموضع نكث العهد والعقد. وقوله ( تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ ) يقول تعالى ذكره: تجعلون أيمانكم التي تحلفون بها على أنكم موفون بالعهد لمن عاقدتموه ( دَخَلا بَيْنَكُمْ ) يقول: خديعة وغرورا ليطمئنوا إليكم وأنتم مضمرون لهم الغدر وترك الوفاء بالعهد والنُّقلة عنهم إلى غيرهم من أجل أن غيرهم أكثر عددًا منهم. والدَّخَل في كلام العرب: كلّ أمر لم يكن صحيحًا، يقال منه: أنا أعلم دَخَل فلان ودُخْلُلَه وداخلة أمره ودخلته ودخيلته.وأما قوله ( أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ ) فإن قوله أربى: أفعل من الربا، يقال: هذا أربى من هذا وأربأ منه، إذا كان أكثر منه ؛ ومنه قول الشاعر:وأسْمَرَ خَطِّيّ كأنَّ كُعُوبَهُنَوى القسْبِ قد أرْبَى ذرَاعا على العَشْرِ (2)وإنما يقال: أربى فلان من هذا وذلك للزيادة التي يزيدها على غريمه على رأس ماله.وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.* ذكر من قال ذلك:حدثني المثنى، وعليّ بن داود، قالا ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله ( أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ ) يقول: أكثر.حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله ( أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ ) يقول: ناس أكثر من ناس.حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء ؛ وحدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله ( أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ ) قال: كانوا يحالفون الحلفاء، فيجدون أكثر منهم وأعزّ، فينقضون حِلْف هؤلاء ، ويحالفون هؤلاء الذين هم أعزّ منهم، فنهوا عن ذلك.حدثنا ابن المثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (3) وحدثني القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ ) يقول: خيانة وغدرا بينكم ( أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ ) أن يكون قوم أعزّ وأكثر من قوم.حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا أبو ثور، عن مَعْمر، عن قتادة ( دَخَلا بَيْنَكُمْ ) قال: خيانة بينكم.حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ( تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ ) يغرّ بها، يعطيه العهد يؤمنه وينزله من مأمنه، فتزلّ قدمه وهو في مأمن، ثم يعود يريد الغدر، قال: فأوّل بدو هذا (4) قوم كانوا حلفاء لقوم تحالفوا ، وأعطى بعضهم بعضا العهد، فجاءهم قوم قالوا: نحن أكثر وأعزّ وأمنع، فانقضوا عهد هؤلاء وارجعوا إلينا ، ففعلوا، وذلك قول الله تعالى وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلا ( أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ ) هي أربى: أكثر من أجل أن كانوا هؤلاء أكثر من أولئك نقضتم العهد فيما بينكم وبين هؤلاء، فكان هذا في هذا، وكان الأمر الآخر في الذي يعاهده فينزله من حِصْنه ثم ينكث عليه، الآية الأولى في هؤلاء القوم وهي مبدؤه، والأخرى في هذا.حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول، في قوله ( أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ ) يقول: أكثر، يقول: فعليكم بوفاء العهد.وقوله ( إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ ) يقول تعالى ذكره: إنما يختبركم الله بأمره إياكم بالوفاء بعهد الله إذا عاهدتم، ليتبين المطيع منكم المنتهي إلى أمره ونهيه من العاصي المخالف أمره ونهيه ( وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ) يقول تعالى ذكره: وليبينن لكم أيها الناس ربكم يوم القيامة إذا وردتم عليه بمجازاة كلّ فريق منكم على عمله في الدنيا، المحسن منكم بإحسانه والمسيء بإساءته، ( مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ) والذي كانوا فيه يختلفون في الدنيا أن المؤمن بالله كان يقرّ بوحدانية الله ونبوّة نبيه، ويصدق بما ابتعث به أنبياءه، وكان يكذّب بذلك كله الكافر فذلك كان اختلافهم في الدنيا الذي وعد الله تعالى ذكره عباده أن يبينه لهم عند ورودهم عليه بما وصفنا من البيان.

وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً وَلَٰكِن يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ وَلَتُسْـَٔلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (93)


يقول تعالى ذكره: ولو شاء ربكم أيها الناس للطف بكم بتوفية من عنده، فصرتم جميعًا جماعة واحدة ، وأهل ملة واحدة لا تختلفون ولا تفترقون ، ولكنه تعالى ذكره خالف بينكم ، فجعلكم أهل ملل شتى، بأن وفَّق هؤلاء للإيمان به ، والعمل بطاعته ، فكانوا مؤمنين، وخذل هؤلاء فحَرَمهم توفيقه فكانوا كافرين، وليسألنكم الله جميعا يوم القيامة عما كنتم تعملون في الدنيا فيما أمركم ونهاكم، ثم ليجازينكم جزاء المطيع منكم بطاعته ، والعاصي له بمعصيته.--------------------------------------------------------------------------------الهوامش:(1) البخت: هي الإبل الخراسانية، وهي جمال طوال الأعناق، الواحد حتى (اللسان).(2) (البيت في اللسان: قسب) قال: القسب: التمر اليابس. يتفتت في الفم، صلب النواة قال الشاعر يصف رمحا: "وأسمر خطيا ... إلى آخر البيت" ... قال ابن بري: هذا البيت يذكر أنه لحاتم الطائي، ولم أجده في شعره. وأربى وأرمى: لغتان. ونوى القسب أصلب النوى. والخطى نسبة إلى الخط: بلد عند البحرين، مشهور بصنع الرماح. واستشهد المؤلف هنا بالبيت على أن معنى أربى: أكثر. وكذلك قال أبو عبيدة في مجاز القرآن (1: 367).(3) أي مثله، وكثيراً ما يأتي بالسند ويترك المتن إذا تقدم، ولا يأتي بلفظ نحوه أو مثله، وتقدمت الإشارة إلى بعض ذلك في مواضعه.(4) في الأصل: هو، ولعله تحريف من الناسخ.

الصفحة السابقة الصفحة التالية