تفسير سورة النحل الصفحة 278 من القرآن الكريم

تفسير الصفحة رقم 278 من المصحف


وَلَا تَتَّخِذُوٓا۟ أَيْمَٰنَكُمْ دَخَلًۢا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌۢ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا۟ ٱلسُّوٓءَ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94)


يقول تعالى ذكره: ولا تتخذوا أيمانكم بينكم دَخَلا وخديعة بينكم، تغزون بها الناس ( فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا ) يقول: فتهلكوا بعد أن كنتم من الهلاك آمنين. وإنما هذا مثل لكل مبتلى بعد عافية، أو ساقطٍ في ورطة بعد سلامة، وما أشبه ذلك: (زلَّت قدمه)، كما قال الشاعر:سيَمْنَعُ مِنْكَ السَّبْقُ إنْ كُنْتَ سابِقاوتُلْطَعُ إنْ زَلَّتْ بكَ النَّعْلانِ (1)وقوله ( وَتَذُوقُوا السُّوءَ ) يقول: وتذوقوا أنتم السوء وذلك السوء: هو عذاب الله الذي يعذّب به أهل معاصيه في الدنيا، وذلك بعض ما عذّب به أهل الكفر ( بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ) يقول: بما فَتنتم من أراد الإيمان بالله ورسوله عن الإيمان ( وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) في الآخرة، وذلك نار جهنم ، وهذه الآية تدلّ على أن تأويل بُرَيْدة الذي ذكرنا عنه ، في قوله وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ والآيات التي بعدها، أنه عُنِيَ بذلك : الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام، عن (2) مفارقة الإسلام لقلة أهله، وكثرة أهل الشرك هو الصواب، دون الذي قال مجاهد أنهم عنوا به، لأنه ليس في انتقال قوم تحالفوا عن حلفائهم إلى آخرين غيرهم ، صدّ عن سبيل الله ولا ضلال عن الهدى، وقد وصف تعالى ذكره في هذه الآية فاعِلِي ذلك ، أنهم باتخاذهم الأيمان دَخَلا بينهم ، ونقضهم الأيمان بعد توكيدها، صادّون عن سبيل الله، وأنهم أهل ضلال في التي قبلها، وهذه صفة أهل الكفر بالله لا صفة أهل النُّقْلة بالحلف عن قوم إلى قوم.

وَلَا تَشْتَرُوا۟ بِعَهْدِ ٱللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِندَ ٱللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (95)


يقول تعالى ذكره: ولا تنقضوا عهودكم أيها الناس ، وعقودكم التي عاقدتموها من عاقدتم مؤكِّديها بأيمانكم، تطلبون بنقضكم ذلك عرضًا من الدنيا قليلا ولكن أوفوا بعهد الله الذي أمركم بالوفاء به ، يثبكم الله على الوفاء به، فإن ما عند الله من الثواب لكم على الوفاء بذلك ، هو خير لكم إن كنتم تعلمون ، فضل ما بين العِوَضين اللذين أحدهما الثمن القليل ، الذي تشترون بنقض عهد الله في الدنيا ، والآخر الثواب الجزيل في الآخرة على الوفاء به ، ثم بين تعالى ذكره فرْق ما بين العِوَضين وفضل ما بين الثوابين، فقال: ما عندكم أيها الناس مما تتملكونه في الدنيا ، وإن كَثُر فنافدٌ فان، وما عند الله لمن أوفى بعهده وأطاعه من الخيرات باق غير فانٍ، فلما عنده فاعملوا وعلى الباقي الذي لا يفنى فاحرصوا.

مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ ٱللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ ٱلَّذِينَ صَبَرُوٓا۟ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا۟ يَعْمَلُونَ (96)


وقوله ( وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) يقول تعالى ذكره: وليثيبنّ الله الذين صبروا على طاعتهم إياه في السّراء والضرّاء، ثوابهم يوم القيامة على صبرهم عليها ، ومسارعتهم في رضاه، بأحسن ما كانوا يعملُون من الأعمال دون أسوئها، وليغفرنّ الله لهم سيئها بفضله.

مَنْ عَمِلَ صَٰلِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُۥ حَيَوٰةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا۟ يَعْمَلُونَ (97)


يقول تعالى ذكره: من عمل بطاعة الله، وأوفى بعهود الله إذا عاهد من ذكر أو أنثى من بني آدم وهو مؤمن: يقول : وهو مصدّق بثواب الله الذي وعد أهل طاعته على الطاعة، وبوعيد أهل معصيته على المعصية ( فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ) .واختلف أهل التأويل في الذي عَنى الله بالحياة الطيبة التي وعد هؤلاء القوم أن يُحْيِيَهموها، فقال بعضهم: عنى أنه يحييهم في الدنيا ما عاشوا فيها بالرزق الحلال.* ذكر من قال ذلك:حدثني أبو السائب، قال: ثنا أبو معاوية، عن إسماعيل بن سَمِيع (3) عن أبي مالك وأبي الربيع، عن ابن عباس، بنحوه.حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن إسماعيل بن سَمِيع، عن أبي الربيع، عن ابن عباس، في قوله ( مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ) قال: الرزق الحسن في الدنيا.حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن إسماعيل بن سَمِيع ، عن أبي الربيع، عن ابن عباس ( فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ) قال: الرزق الطيب في الدنيا.حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله ( مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ) يعني في الدنيا.حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا ابن عيينة، عن مطرف، عن الضحاك ( فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ) قال: الرزق الطيب الحلال.حدثني عبد الأعلى بن واصل، قال: ثنا عون بن سلام القرشيّ، قال: أخبرنا بشر بن عُمارة، عن أبي رَوُق، عن الضحاك، في قوله ( فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ) قال: يأكل حلالا ويلبس حلالا.وقال آخرون ( فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ) بأن نرزقه القناعة.* ذكر من قال ذلك:حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا يحيى بن يمان، عن المنهال بن خليفة، عن أبي خزيمة سليمان التمَّار، عمن ذكره عن عليّ( فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ) قال: القنوع.حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو عصام، عن أبي سعيد، عن الحسن البصريّ، قال: الحياة الطيبة: القناعة.وقال آخرون: بل يعني بالحياة الطيبة الحياة مؤمنًا بالله عاملا بطاعته.* ذكر من قال ذلك : حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله ( فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) يقول: من عمل عملا صالحًا وهو مؤمن في فاقة أو ميسرة، فحياته طيبة، ومن أعرض عن ذكر الله فلم يؤمن ولم يعمل صالحًا، عيشته ضنكة لا خير فيها.وقال آخرون: الحياة الطيبة السعادة.* ذكر من قال ذلك:حدثني المثنى وعليّ بن داود، قالا ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله ( فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ) قال: السعادة.وقال آخرون: بل معنى ذلك: الحياة في الجنة.* ذكر من قال ذلك:حدثنا ابن بشار، قال: ثنا هَوْذة، عن عوف، عن الحسن ( فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ) قال: لا تطيب لأحد حياة دون الجنة.حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو أسامة، عن عوف، عن الحسن ( فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ) قال: ما تطيب الحياة لأحد إلا في الجنة.حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ) فإن الله لا يشاء عملا إلا في إخلاص، ويوجب عمل ذلك في إيمان، قال الله تعالى ( فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ) وهي الجنة.حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد ( فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ) قال: الآخرة يحييهم حياة طيبة في الآخرة.حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ( مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ) قال: الحياة الطيبة في الآخرة: هي الجنة، تلك الحياة الطيبة، قال ( وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) وقال: ألا تراه يقول يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي قال: هذه آخرته. وقرأ أيضًا وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ قال: الآخرة دار حياة لأهل النار وأهل الجنة، ليس فيها موت لأحد من الفريقين.حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، في قوله ( مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ ) قال: الإيمان: الإخلاص لله وحده، فبين أنه لا يقبل عملا إلا بالإخلاص له.وأولى الأقوال بالصواب قول من قال: تأويل ذلك: فلنحيينه حياة طيبة بالقناعة ، وذلك أن من قنعه الله بما قسم له من رزق لم يكثر للدنيا تعبه ، ولم يعظم فيها نَصَبه ولم يتكدّر فيها عيشه باتباعه بغية ما فاته منها وحرصه على ما لعله لا يدركه فيها.وإنما قلت ذلك أولى التأويلات في ذلك بالآية ، لأن الله تعالى ذكره أوعد قوما قبلها على معصيتهم إياه إن عصوه أذاقهم السوء في الدنيا ، والعذاب في الآخرة، فقال تعالى وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فهذا لهم في الدنيا، ولهم في الآخرة عذاب عظيم، فهذا لهم في الآخرة. ثم أتبع ذلك لمَن أوفى بعهد الله وأطاعه فقال تعالى: ما عندكم في الدنيا ينفد، وما عند الله باق، فالذي (4) هذه السيئة بحكمته أن (5) يعقب ذلك الوعد لأهل طاعته بالإحسان في الدنيا، والغفران في الآخرة، وكذلك فَعَلَ تعالى ذكره.وأما القول الذي رُوي عن ابن عباس أنه الرزق الحلال، فهو مُحْتَمَل أن يكون معناه الذي قلنا في ذلك، من أنه تعالى يقنعه في الدنيا بالذي يرزقه من الحلال ، وإن قلّ فلا تدعوه نفسه إلى الكثير منه من غير حله. لا أنه يرزقه الكثير من الحلال، وذلك أن أكثر العاملين لله تعالى بما يرضاه من الأعمال لم نرهم رُزِقوا الرزق الكثير من الحلال في الدنيا، ووجدنا ضيق العيش عليهم أغلب من السعة.وقوله ( وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) فذلك لا شك أنه في الآخرة . وكذلك قال أهل التأويل.* ذكر من قال ذلك:حدثني أبو السائب، قال: ثنا أبو معاوية، عن إسماعيل بن سميع، عن أبي مالك، عن ابن عباس ( وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) قال: إذا صاروا إلى الله جزاهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون.حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو معاوية، عن إسماعيل بن سَمِيع، عن أبي مالك، وأبي الربيع، عن ابن عباس، مثله.حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن إسماعيل بن سَمِيع ، عن أبي الربيع، عن ابن عباس ( وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ ) قال: في الآخرة.حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن إسماعيل بن سَمِيع ، عن أبي الربيع، عن ابن عباس، مثله.حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس ( وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) يقول: يجزيهم أجرهم في الآخرة بأحسن ما كانوا يعملون.وقيل: إن هذه الآية نزلت بسبب قوم من أهل مِلَل شتى تفاخروا، فقال أهل كلّ ملة منها: نحن أفضل، فبين الله لهم أفضل أهل الملل.* ذكر من قال ذلك:حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا يعلى بن عبيد، عن إسماعيل، عن أبي صالح، قال: جلس ناس من أهل الأوثان وأهل التوراة وأهل الإنجيل، فقال هؤلاء: نحن أفضل ، وقال هؤلاء: نحن أفضل ، فأنزل الله تعالى ( مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) .

فَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرْءَانَ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ مِنَ ٱلشَّيْطَٰنِ ٱلرَّجِيمِ (98)


يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وإذا كنت يا محمد قارئًا القرآن، فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم. وكان بعض أهل العربية يزعم أنه من المؤخر الذي معناه التقديم. وكان معنى الكلام عنده: وإذا استعذت بالله من الشيطان الرجيم، فاقرأ القرآن ، ولا وجه لما قال من ذلك، لأن ذلك لو كان كذلك لكان متى استعاذ مستعيذ من الشيطان الرجيم لزمه أن يقرأ القرآن، ولكن معناه ما وصفناه ، وليس قوله (فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) بالأمر اللازم، وإنما هو إعلام وندب . وذلك أنه لا خلاف بين الجميع ، أن من قرأ القرآن ولم يستعذ بالله من الشيطان الرجيم . قبل قرأته أو بعدها أنه لم يضيع فرضا واجبا. وكان ابن زيد يقول في ذلك نحو الذي قلنا.حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ( فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ) قال: فهذا دليل من الله تعالى دلّ عباده عليه.

إِنَّهُۥ لَيْسَ لَهُۥ سُلْطَٰنٌ عَلَى ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99)


وأما قوله ( إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ) فإنه يعني بذلك: أن الشيطان ليست له حجة على الذين آمنوا بالله ورسوله ، وعملوا بما أمر الله به وانتهوا عما نهاهم الله عنه ( وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ) يقول: وعلى ربهم يتوكلون فيما نابهم من مهمات أمورهم.

إِنَّمَا سُلْطَٰنُهُۥ عَلَى ٱلَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُۥ وَٱلَّذِينَ هُم بِهِۦ مُشْرِكُونَ (100)


( إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ ) يقول: إنما حجته على الذين يعبدونه، ( وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ ) يقول: والذين هم بالله مشركون.وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.* ذكر من قال ذلك:حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا ورقاء وحدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( إِنَّمَا سُلْطَانُهُ ) قال: حجته.حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قوله ( إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ ) قال: يطيعونه.واختلف أهل التأويل في المعنى الذي من أجله لم يسلط فيه الشيطان على المؤمن.فقال بعضهم بما حُدّثت عن واقد بن سليمان، عن سفيان، في قوله ( إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ) قال: ليس له سلطان على أن يحملهم على ذنب لا يغفر.وقال آخرون: هو الاستعاذة، فإنه إذا استعاذ بالله منع منه ، ولم يسلط عليه ، واستشهد لصحة قوله ذلك بقول الله تعالى: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ وقد ذكرنا الرواية بذلك في سورة الحِجْر.وقال آخرون في ذلك، بما حدثني به المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، في قوله ( إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ) إلى قوله ( وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ ) يقال: إن عدوّ الله إبليس قال لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ فهؤلاء الذين لم يجعل للشيطان عليهم سبيل، وإنما سلطانه على قوم اتخذوه وليا ، وأشركوه في أعمالهم.حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله ( إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ) يقول: السلطان على من تولى الشيطان وعمل بمعصية الله.حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ ) يقول: الذين يطيعونه ويعبدونه.وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: معناه: إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا فاستعاذوا بالله منه، بما ندب الله تعالى ذكره من الاستعاذة ( وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ) على ما عرض لهم من خطراته ووساوسه.وإنما قلنا ذلك أولى التأويلات بالآية ، لأن الله تعالى ذكره أتبع هذا القول ( فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ) وقال في موضع آخر: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ فكان بينا بذلك أنه إنما ندب عباده إلى الاستعاذة منه في هذه الأحوال ليُعيذهم من سلطانه.وأما قوله ( وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ ) فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله، فقال بعضهم فيه بما قلنا إن معناه: والذين هم بالله مشركون.* ذكر من قال ذلك:حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء وحدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل وحدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله ( وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ ) قال: يعدلون بربّ العالمين.حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد ( وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ ) قال: يعدلون بالله.حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ، قال: ثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول: في قوله ( وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ ) عدلوا إبليس بربهم، فإنهم بالله مشركون.وقال آخرون: معنى ذلك: والذين هم به مشركون، أشركوا الشيطان في أعمالهم.* ذكر من قال ذلك:حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع ( وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ ) أشركوه في أعمالهم.والقول الأوّل، أعني قول مجاهد، أولى القولين في ذلك بالصواب ، وذلك أن الذين يتولون الشيطان إنما يشركونه بالله في عبادتهم وذبائحهم ومطاعمهم ومشاربهم، لا أنهم يشركون بالشيطان. ولو كان معنى الكلام ما قاله الربيع، لكان التنزيل: الذين هم مشركوه، ولم يكن في الكلام به ، فكان يكون لو كان التنزيل كذلك ، والذين هم مشركوه في أعمالهم، إلا أن يوجه موجه معنى الكلام ، إلى أن القوم كانوا يدينون بألوهة الشيطان ، ويشركون الله به في عبادتهم إياه، فيصحّ حينئذ معنى الكلام، ويخرج عما جاء التنزيل به في سائر القرآن ، وذلك أن الله تعالى وصف المشركين في سائر سور القرآن أنهم أشركوا بالله ، ما لم ينزل به عليهم سلطانا، وقال في كلّ موضع تقدّم إليهم بالزجر عن ذلك ، لا تشركوا بالله شيئا، ولم نجد في شيء من التنزيل: لا تشركوا الله بشيء، ولا في شيء من القرآن. خبرا من الله عنهم أنهم أشركوا الله بشيء فيجوز لنا توجيه معنى قوله ( وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ ) إلى والذين هم بالشيطان مشركو الله. فبين إذًا إذ كان ذلك كذلك ، أن الهاء في قوله ( وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ ) عائدة على الربّ في قوله ( وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ) .

وَإِذَا بَدَّلْنَآ ءَايَةً مَّكَانَ ءَايَةٍ وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوٓا۟ إِنَّمَآ أَنتَ مُفْتَرٍۭ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)


يقول تعالى ذكره: وإذا نسخنا حكم آية ، فأبدلنا مكانه حكم أخرى، والله أعلم بما ينزل : يقول: والله أعلم بالذي هو أصلح لخلقه فيما يبدِّل ويغير من أحكامه، قالوا: إنما أنت مفتر يقول: قال المشركون بالله ، المكذبو رسوله لرسوله: إنما أنت يا محمد مفتر: أي مكذب تخرص بتقوّل الباطل على الله ، يقول الله تعالى بل أكثر هؤلاء القائلين لك يا محمد: إنما أنت مفتر جهال ، بأنّ الذي تأتيهم به من عند الله ناسخه ومنسوخه ، لا يعلمون حقيقة صحته.وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله ( وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ ) قال أهل التأويل.* ذكر من قال ذلك:حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء وحدثني المثنى، قال: ثنا أبو حُذيفة، قال: ثنا شبل وحدثني المثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله ( وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ ) رفعناها فأنزلنا غيرها.حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد ( وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ ) قال: نسخناها، بدّلناها، رفعناها، وأثبتنا غيرها.حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ ) هو كقوله مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا .حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ( وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ ) قالوا: إنما أنت مفتر، تأتي بشيء وتنقضه، فتأتي بغيره. قال: وهذا التبديل ناسخ، ولا نبدل آية مكان آية إلا بنسخ.

قُلْ نَزَّلَهُۥ رُوحُ ٱلْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِٱلْحَقِّ لِيُثَبِّتَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ وَهُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ (102)


يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد للقائلين لك إنما أنت مفتر فيما تتلو عليهم من آي كتابنا ، أنزله روح القُدُس : يقول: قل جاء به جَبرئيل من عند ربي بالحقّ. وقد بيَّنت في غير هذا الموضع معنى: روح القُدس، بما أغنى عن إعادته.وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.* ذكر من قال ذلك:حدثني عبد الأعلى بن واصل، قال: ثنا جعفر بن عون العمَريّ، عن موسى بن عبيدة الرَّبَذيّ، عن محمد بن كعب، قال: روح القُدُس: جبرئيل.وقوله ( لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا ) يقول تعالى ذكره: قل نزل هذا القرآن ناسخه ومنسوخه ، روح القدس عليّ من ربي، تثبيتا للمؤمنين ، وتقوية لإيمانهم، ليزدادوا بتصديقهم لناسخه ومنسوخه إيمانا لإيمانهم ، وهدى لهم من الضلالة، وبُشرى للمسلمين الذين استسلموا لأمر الله ، وانقادوا لأمره ونهيه ، وما أنزله في آي كتابه، فأقرّوا بكل ذلك ،وصدقوا به قولا وعملا.--------------------------------------------------------------------------------الهوامش:(1) في (اللسان: لطع): اللطع أن تضرب مؤخر الإنسان برجلك. تقول: لطعته (بالكسر) ألطعه لطعا. وقوله تعالى: (فتزل قدم بعد ثبوتها) قال أبو عبيدة في مجاز القرآن (1 : 367): مثل يقال لكل مبتلى بعد عافية، أو ساقط في ورطة بعد سلامة ونحو ذلك: زلت قدمه.(2) "عن" هنا: للتعليل، أي بسبب مفارقة الإسلام، مثلها في قوله تعالى: (وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك): أي لأجلك.(3) إسماعيل بن سميع، بالسين مفتوحة، الحنفي، أبو محمد، وثقه جماعة، وكان خارجيا.(4) هذه العبارة قد سقطت منها كلمات، ولعل الأصل: فالذي أوعد أهل المعاصي بإذاقتهم هذه السيئة بحكمته، أراد أن يعقب .. الخ.(5) هذه العبارة قد سقطت منها كلمات، ولعل الأصل: فالذي أوعد أهل المعاصي بإذاقتهم هذه السيئة بحكمته، أراد أن يعقب .. الخ.

الصفحة السابقة الصفحة التالية