تفسير سورة النازعات الصفحة 584 من القرآن الكريم

تفسير الصفحة رقم 584 من المصحف


إِذْ نَادَىٰهُ رَبُّهُۥ بِٱلْوَادِ ٱلْمُقَدَّسِ طُوًى (16)


القول في تأويل قوله تعالى : إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16)يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : هل أتاك يا محمد حديث موسى بن عمران، وهل سمعت خبره حين ناجاه ربه بالواد المقدّس، يعني بالمقدّس: المطهر المبارك. وقد ذكرنا أقوال أهل العلم في ذلك فيما مضى، فأغنى عن إعادته في هذا الموضع، وكذلك بيَّنَّا معنى قوله: ( طُوًى ) وما قال فيه أهل التأويل، غير أنا نذكر بعض ذلك هاهنا.وقد اختلف أهل التأويل في قوله: ( طُوى ) فقال بعضهم: هو اسم الوادي.* ذكر من قال ذلك:حدثني محمد بن عمرو، قال : ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: ( طُوًى ) اسم الوادي .حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى قال: اسم المقدّس طوى .حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ) كنا نحدّث أنه قدّس مرّتين، واسم الوادي طُوًى .وقال آخرون: بل معنى ذلك: طأ الأرض حافيا.* ذكر بعض من قال ذلك:حدثنا أبو كُريب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى قال: طأ الأرض بقدمك .وقال آخرون: بل معنى ذلك أن الوادي قدّس طوى: أي مرّتين، وقد بيَّنا ذلك كله ووجوهه فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. وقرأ ذلك الحسن بكسر الطاء، وقال: بُثَّتْ فيه البركة والتقديس مرّتين. حدثنا بذلك أحمد بن يوسف، قال: ثنا القاسم، قال: ثنا هشيم، عن عوف، عن الحسن.واختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة ( طُوًى ) بالضمّ ولم يجرّوه وقرأ ذلك بعض أهل الشأم والكوفة ( طُوًى ) بضمّ الطاء والتنوين.

ٱذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُۥ طَغَىٰ (17)


وقوله: ( اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ) يقول تعالى ذكره: نادى موسى ربُّه: أن اذهب إلى فرعون، فحذفت " أن " إذ كان النداء قولا فكأنه قيل لموسى قال ربه: اذهب إلى فرعون. وقوله: ( إِنَّهُ طَغَى ) يقول: عتا وتجاوز حدّه في العدوان، والتكبر على ربه.

فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَىٰٓ أَن تَزَكَّىٰ (18)


وقوله: ( فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى ) يقول: فقل له: هل لك إلى أن تتطهَّر من دنس الكفر، وتؤمِن بربك؟كما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: ( هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى ) قال: إلى أن تُسلم. قال: والتزكي في القرآن كله: الإسلام، وقرأ قول الله: وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى قال: من أسلم، وقرأ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى قال: يسلم، وقرأ وَمَا عَلَيْكَ أَلا يَزَّكَّى . ألا يسلم .حدثني سعيد بن عبد الله بن عبد الحَكَم، قال: ثنا حفص بن عُمَرَ العَدَنِيّ، عن الحكم بن أبان عن عكرمة، قول موسى لفرعون: ( هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى ) هل لك إلى أن تقول: لا إله إلا الله .واختلفت القرّاء في قراءة قوله: ( تَزَكَّى ) فقرأته عامة قرَّاء المدينة ( تَزَّكَّى ) بتشديد الزاي، وقرأته عامة قرّاء الكوفة والبصرة ( إِلَى أَنْ تَزَكَّى ) بتخفيف الزاي. وكان أبو عمرو يقول فيما ذُكر عنه ( تَزَّكَّى ) بتشديد الزاي، بمعنى: تتصدّق بالزكاة، فتقول: تتزكى، ثم تدغم، وموسى لم يدع فرعون إلى أن يتصدّق وهو كافر، إنما دعاه إلى الإسلام، فقال: تزكى: أي تكون زاكيا مؤمنا، والتخفيف في الزاي هو أفصح القراءتين في العربية.

وَأَهْدِيَكَ إِلَىٰ رَبِّكَ فَتَخْشَىٰ (19)


القول في تأويل قوله تعالى : وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19)يقول تعالى ذكره لنبيه موسى: قل لفرعون: هل لك إلى أن أرشدك إلى ما يرضي ربك، وذلك الدين القيم ( فَتَخْشَى ) يقول: فتخشى عقابه بأداء ما ألزمك من فرائضه، واجتناب ما نهاك عنه من معاصيه.

فَأَرَىٰهُ ٱلْءَايَةَ ٱلْكُبْرَىٰ (20)


قوله: ( فَأَرَاهُ الآيَةَ الْكُبْرَى ) يقول تعالى ذكره: فأرى موسى فرعون الآية الكبرى، يعني الدلالة الكبرى، على أنه لله رسول أرسله إليه، فكانت تلك الآية يد موسى إذ أخرجها بيضاء للناظرين، وعصاه إذ تحوّلت ثعبانا مبينا.وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.* ذكر من قال ذلك:حدثني أبو زائدة زكريا بن يحيى بن أبي زائدة، قال: ثنا مسلم بن إبراهيم، عن محمد بن سيف أبي رجاء هكذا هو في كتابي وأظنه عن نوح بن قيس، عن محمد بن سيف، قال: سمعت الحسن يقول في هذه الآية: ( فَأَرَاهُ الآيَةَ الْكُبْرَى ) قال: يده وعصاه .حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( فَأَرَاهُ الآيَةَ الْكُبْرَى ) قال: عصاه ويده .حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ( فَأَرَاهُ الآيَةَ الْكُبْرَى ) قال: رأى يد موسى وعصاه، وهما آيتان .حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة ( الآيَةَ الْكُبْرَى ) قال: عصاه ويده .حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد، في قوله: ( فَأَرَاهُ الآيَةَ الْكُبْرَى ) قال: العصا والحية.

فَكَذَّبَ وَعَصَىٰ (21)


وقوله: ( فَكَذَّبَ وَعَصَى ) يقول: فكذّب فرعون موسى فيما أتاه من الآيات المعجزة، وعصاه فيما أمره به من طاعته ربه، وخَشيته إياه.

ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَىٰ (22)


وقوله: ( ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى ) يقول: ثم ولَّى مُعرضا عما دعاه إليه موسى من طاعته ربه، وخشيته وتوحيده.( يَسْعَى ) يقول: يعمل في معصية الله، وفيما يُسخطه عليه.وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.* ذكر من قال ذلك:حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: ( ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى ) قال: يعمل بالفساد.

فَحَشَرَ فَنَادَىٰ (23)


وقوله: ( فَحَشَرَ فَنَادَى ) يقول: فجمع قومه وأتباعه، فنادى فيهم .

فَقَالَ أَنَا۠ رَبُّكُمُ ٱلْأَعْلَىٰ (24)


( فَقالَ ) لهم: ( أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى ) الذي كلّ ربّ دوني، وكذب الأحمق.وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.* ذكر من قال ذلك:حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: ( فَحَشَرَ فَنَادَى ) قال: صرخ وحشر قومه، فنادى فيهم، فلما اجتمعوا قال: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى * فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى .

فَأَخَذَهُ ٱللَّهُ نَكَالَ ٱلْءَاخِرَةِ وَٱلْأُولَىٰٓ (25)


القول في تأويل قوله تعالى : فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى (25)يعني تعالى ذكره بقوله: ( فَأَخَذَهُ اللَّهُ ) فعاقبه الله ( نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأولَى ) يقول: عقوبة الآخرة من كلمتيه، وهي قوله: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى ، والأولى قوله: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي .وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.* ذكر من قال ذلك:حدثنا أبو كُرَيب، قال: سمعت أبا بكر، وسُئل عن هذا فقال: كان بينهما أربعون سنة، بين قوله: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي ، وقوله: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى قال: هما كلمتاه، ( فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأولَى ) قيل له: مَن ذكره؟ قال: أبو حصين، فقيل له: عن أبي الضُّحَى، عن ابن عباس؟ قال: نعم .حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: ( فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأولَى ) قال: أما الأولى فحين قال: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي ، وأما الآخرة فحين قال: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى .حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا محمد بن أبي الوضَّاح، عن عبد الكريم الجَزريّ، عن مجاهد، في قوله: ( فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأولَى ) قال: هو قوله: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي ، وقوله: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى وكان بينهما أربعون سنة .حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا أبو عوانة، عن إسماعيل الأسدي، عن الشعبيّ بمثله.حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن زكريا، عن عامر ( نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأولَى ) قال: هما كلمتاه مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي و أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى .حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: ( نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأولَى ) فذلك قوله: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي والآخرة في قوله: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى .حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، قال: أخبرني من سمع مجاهدا يقول: كان بين قول فرعون: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي وبين قوله: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى أربعون سنة .حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى) أما الأولى فحين قال فرعون: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي ، وأما الآخرة فحين قال: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى فأخذه الله بكلمتيه كلتيهما، فأغرقه في اليم .حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: ( فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأولَى ) قال: اختلفوا فيها فمنهم من قال: نكال الآخرة من كلمتيه، والأولى قوله: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي وقوله: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى .وقال آخرون: عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، عجَّل الله له الغرق مع ما أعدّ له من العذاب في الآخرة.حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن الأعمش، عن خيثمة الجعفي، قال: كان بين كلمتي فرعون أربعون سنة، قوله: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى ، وقوله: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي .حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن إسرائيل، عن ثُوير، عن مجاهد، قال: مكث فرعون في قومه بعد ما قال: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى أربعين سنة .قال آخرون: بل عُنِيَ بذلك: فأخذه الله نكال الدنيا والآخرة.* ذكر من قال ذلك:حدثنا ابن بشار، قال: ثنا هَوْذَة، قال: ثنا عوف، عن الحسن، في قوله: ( فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأولَى ) قال: الدنيا والآخرة .حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن ( فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأولَى ) قال: عقوبة الدنيا والآخرة، وهو قول قتادة .وقال آخرون: الأولى عصيانه ربه وكفره به، والآخرة قوله: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى .* ذكر من قال ذلك:حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن إسماعيل بن سميع، عن أبي رَزين ( فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأولَى ) قال: الأولى تكذيبه وعصيانه، والآخرة قوله: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى ، ثم قرأ: فَكَذَّبَ وَعَصَى * ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى * فَحَشَرَ فَنَادَى * فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى فهي الكلمة الآخرة .وقال آخرون: بل عُنِيَ بذلك أنه أخذه بأوّل عمله وآخره.* ذكر من قال ذلك:حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد ( فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأولَى ) قال: أوّل عمله وآخره .حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد ( فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأولَى ) قال: أول أعماله وآخرها .حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن الكلبي: ( فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأولَى ) قال: نكال الآخرة من المعصية والأولى .حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، قوله: ( نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأولَى ) قال: عمله للآخرة والأولى.

إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَىٰٓ (26)


وقوله: ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى ) يقول تعالى ذكره: إن في العقوبة التي عاقب الله بها فرعون في عاجل الدنيا، وفي أخذه إياه نكال الآخرة والأولى، عظة ومعتبرا لمن يخاف الله ويخشى عقابه، وأخرج نكال الآخرة مصدرا من قوله: ( فَأَخَذَهُ اللَّهُ ) لأن قوله ( فَأَخَذَهُ اللَّهُ ) نكل به فجعل ( نَكَالَ الآخِرَةِ ) مصدرا من معناه لا من لفظه.

ءَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ ٱلسَّمَآءُ بَنَىٰهَا (27)


وقوله: ( أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا ) يقول تعالى ذكره للمكذّبين بالبعث من قريش، القائلين: أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً * قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ أأنتم أيها الناس أشد خلقا، أم السماء بناها ربكم، فإن من بنى السماء فرفعها سقفا، هَيِّن عليه خلقكم وخلق أمثالكم، وإحياؤكم بعد مماتكم وليس خلقكم بعد مماتكم بأشدّ من خلق السماء. وعني بقوله: ( بَناها ) : رفعها فجعلها للأرض سقفا.

رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّىٰهَا (28)


وقوله: ( رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا ) يقول تعالى ذكره: فسوّى السماء، فلا شيء أرفع من شيء، ولا شيء أخفض من شيء، ولكن جميعها مستوي الارتفاع والامتداد.وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.* ذكر من قال ذلك:حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ( رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا ) يقول: رفع بناءها فسوّاها .حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: ( رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا ) قال: رفع بناءها بغير عمد .حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: ( رَفَعَ سَمْكَهَا ) يقول: بُنيانها.

وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَىٰهَا (29)


القول في تأويل قوله تعالى : وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29)وقوله: ( وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا ) يقول تعالى ذكره: أظلم ليل السماء، فأضاف الليل إلى السماء، لأن الليل غروب الشمس، وغروبها وطلوعها فيها، فأضيف إليها لمَّا كان فيها، كما قيل: نجوم الليل، إذ كان فيه الطلوع والغروب.وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.* ذكر من قال ذلك:حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: ( وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا ) يقول: أظلم ليلها .حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس ( وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا ) يقول: أظلم ليلها .حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: ( وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا ) قال: أظلم .حدثني بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ( وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا ) قال: أظلم ليلها .حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة ( وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا ) قال: أظلم .حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب. قال: قال ابن زيد، في قوله: ( وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا ) قال: الظُّلمة .حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: ( وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا ) يقول: أظلم ليلها .حدثنا محمد بن سنان القزّاز، قال: ثنا حفص بن عمر، قال: ثنا الحكم عن عكرمة ( وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا ) قال: أظلم ليلها.وقوله: ( وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا ) يقول: وأخرج ضياءها، يعني: أبرز نهارها فأظهره، ونوّر ضحاها.وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.* ذكر من قال ذلك:حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا ) نوّرها .حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ( وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا ) يقول: نوّر ضياءها .حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: ( وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا ) قال: نهارها .حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: ( وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا ) قال: ضوء النهار.

وَٱلْأَرْضَ بَعْدَ ذَٰلِكَ دَحَىٰهَآ (30)


وقوله: ( وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ) اختلف أهل التأويل في معنى قوله ( بَعْدَ ذَلكَ ) فقال بعضهم: دُحِيت الأرض من بعد خَلق السماء.* ذكر من قال ذلك:حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله حيث ذكر خلق الأرض قبل السماء، ثم ذكر السماء قبل الأرض، وذلك أن الله خَلق الأرض بأقواتها من غير أن يدحوها قبل السماء، ثم استوى إلى السماء فسوّاهنّ سبع سماوات ، ثم دحا الأرض بعد ذلك، فذلك قوله: ( وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ) .حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس ( وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا ) يعني: أن الله خلق السماوات والأرض، فلما فرغ من السماوات قبل أن يخلق أقوات الأرض فيها بعد خلق السماء، وأرسى الجبال، يعني بذلك دحْوَها الأقوات، ولم تكن تصلح أقوات الأرض ونباتها إلا بالليل والنهار، فذلك قوله: ( وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ) ألم تسمع أنه قال: ( أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا ) .حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب، عن حفص، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: وضع البيت على الماء على أربعة أركان قبل أن يخلق الدنيا بألفي عام، ثم دُحيت الأرض من تحت البيت .حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن الأعمش، عن بكير بن الأخنس، عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو، قال: خلق الله البيت قبل الأرض بألفي سنة، ومنه دُحيت الأرض .وقال آخرون: بل معنى ذلك: والأرض مع ذلك دحاها، وقالوا: الأرض خُلِقت ودُحِيت قبل السماء، وذلك أن الله قال: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ . قالوا: فأخبر الله أنه سوّى السماوات بعد أن خلق ما في الأرض جميعا، قالوا فإذا كان ذلك كذلك، فلا وجه لقوله: ( وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ) إلا ما ذكرنا من أنه مع ذلك دحاها قالوا: وذلك كقول الله عز وجلّ: عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ . بمعنى: مع ذلك زنيم، وكما يقال للرجل: أنت أحمق، وأنت بعد هذا لئيم الحسب، بمعنى: مع هذا، وكما قال جلّ ثناؤه: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ : أي من قبل الذكر، واستشهد بقول الهُذَليّ:حَمِدْتُ إلَهِي بَعْدَ عُرْوَةَ إذْ نَجَاخِراشٌ وبَعْضُ الشِّر أهْوَنُ مِنْ بَعْضِ (1)وزعموا أن خراشا نجا قبل عروة.حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن خَصِيفٍ، عن مجاهد ( وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ) قال: مع ذلك دحاها .حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن الأعمش، عن مجاهد، أنه قال: والأرْضَ عِنْدَ ذَلكَ دَحاها.حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: ثنا عليّ بن معبد، قال: ثنا محمد بن سلمة، عن خصيف، عن مجاهد ( وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ) قال: مع ذلك دحاها .حدثني محمد بن خلف العسقلاني، قال: ثنا روّاد بن الجرّاح، عن أبي حمزة، عن السدي في قوله: ( وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ) قال: مع ذلك دحاها .والقول الذي ذكرناه عن ابن عباس من أن الله تعالى خلق الأرض، وقدّر فيها أقواتها، ولم يدحها، ثم استوى إلى السماء، فسوّاهن سبع سماوات ، ثم دحا الأرض بعد ذلك، فأخرج منها ماءها ومرعاها، وأرسى جبالها، أشبه بما دلّ عليه ظاهر التنزيل، لأنه جلّ ثناؤه قال: ( وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ) والمعروف من معنى " بَعْدَ " أنه خلاف معنى " قَبْل " وليس في دحوِّ الله الأرض بعد تسويته السماوات السبع، وإغطاشه ليلها، وإخراجه ضحاها، ما يوجب أن تكون الأرض خُلقت بعد خلق السماوات لأن الدحوّ إنما هو البسط في كلام العرب، والمدّ يقال منه: دحا يدحو دَحْوا، ودَحيْتُ أدْحي دَحْيا، لغتان؛ ومنه قول أُميَّة بن أبي الصلت:دَارٌ دَحاها ثُمَّ أعْمَرَنا بِهاوَأقامَ بالأخْرَى الَّتِي هي أمجدُ (2)وقول أوس بن حجر في نعت غيث:يَنْفِي الحصَى عن جديد الأرْضِ مُبْتَرِكٌكأنَّه فاحِصٌ أو لاعِبٌ داحِي (3)وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.* ذكر من قال ذلك:حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ) : أي بسطها .حدثني محمد بن خلف، قال: ثنا رَوّاد، عن أبي حمزة، عن السدي ( دَحَاها ) قال: بسطها .حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان: ( دَحَاها ) بسطها .وقال ابن زيد في ذلك ما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: ( دَحَاها ) قال: حرثها شقَّها وقال: ( أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا ) ، وقرأ: ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا ... حتى بلغ وَفَاكِهَةً وَأَبًّا ، وقال حين شقَّها أنْبتَ هذا منها، وقرأ وَالأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ .------------------------الهوامش:(1) البيت لأبي خراش الهذلي ( شرح التبريزي على الحماسة 2 : 43 ) من قصيدة له قالها في أخيه عروة وابنه خراش بن أبي خراش ، وكان قوم من العرب أسروهما ، فقتلوا عروة ، ونجا خراش وقد ذهب المؤلف إلى أن ( بعد ) في البيت بمعنى ( مع ) وكأن الشاعر يقول : حمدت إلهي على نجاة خراش ، مع ما أصبت به من قتل عروة أخي وانظر ( ديوان الهذليين 2 : 157 )(2) البيت لأمية بن أبي الصلت ( ديوانه 63 عن تفسير الطبري ) وفي ( اللسان : دحا ) الدحو البسط دحا الأرض يدحوها دحوا : بسطها . ودحيت الشيء أدحاه : بسطته ، لغة في دحوته ، حكاها اللحياني . وقال أبو عبيدة في مجاز القرآن ( 184 ) دحاها : بسطها . تقول : دحوت ودحيت . ا . ه .(3) البيت في ( اللسان : دحا ) وفي الشطر الأول منه : " ينزع جلد الحصى أجش مبترك " . وهو وصف غيث . يقال : دحا المطر الحصى عن وجه الأرض دحوا : نزعه ، والمطر الداحي : الذي ينزع الحصى عن وجه الأرض ، والأجش : الذي في صوته خشونة . والمبترك : المعتمد على الشيء ، الملح عليه . والفاحص : الذي يفحص الأرض وينبشها ويحتفرها . والداحي : الذي يلعب بالمداحي ، وهي أحجار أمثال القرصة ، كانوا يحفرون حفرة ويدحون فيها تلك الأحجار ، فإن وقع الحجر فيها غلب صاحبها ، وإن لم يقع غلب . والدحو : هو رمي اللاعب بالحجر والجوز وغيره ، وتسمى الحفرة أدحية . والبيت شاهد كالذي قبله . والبيت متنازع في نسبته بين أوس وعبيد بن الأبرص . وهو في ديوان أوس ص 3 ، وفي ديوان عبيد 35 .

أَخْرَجَ مِنْهَا مَآءَهَا وَمَرْعَىٰهَا (31)


وقوله: ( أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا ) يقول: فجَّر فيها الأنهار ( وَمَرْعَاهَا ) يقول: أنبت نَباتها.وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.* ذكر من قال ذلك:حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: ( وَمَرْعَاهَا ) ما خلق الله فيها من النبات، ومَاءهَا ما فجر فيها من الأنهار .

وَٱلْجِبَالَ أَرْسَىٰهَا (32)


وقوله: ( وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا ) يقول: والجبال أثبتها فيها، وفي الكلام متروك استغني بدلالة الكلام عليه من ذكره، وهو فيها، وذلك أن معنى الكلام: والجبال أرساها فيها.حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد عن قتادة ( وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا ) أي: أثبتها لا تَمِيد بأهلها حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن عطاء، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن علي قال: لما خلق الله الأرض قمصت وقالت: تخلق عليّ آدم وذرّيته يلقون عليّ نتْنهم، ويعملون عليّ بالخطايا، فأرساها الله، فمنها ما ترون، ومنها ما لا ترون، فكان أوَّل قرار الأرض كلحم الجزور إذا نُحِر يحتلج لحمها.

مَتَٰعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَٰمِكُمْ (33)


القول في تأويل قوله تعالى : مَتَاعًا لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ (33)يعني تعالى ذكره بقوله: ( مَتَاعًا لَكُمْ وَلأنْعَامِكُمْ ) أنه خلق هذه الأشياء، وأخرج من الأرض ماءها ومرعاها منفعة لنا ومتاعا إلى حين.

فَإِذَا جَآءَتِ ٱلطَّآمَّةُ ٱلْكُبْرَىٰ (34)


وقوله: ( فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى ) يقول تعالى ذكره: فإذا جاءت التي تطم على كلّ هائلة من الأمور، فتغمر ما سواها بعظيم هولها، وقيل: إنها اسم من أسماء يوم القيامة.* ذكر من قال ذلك:حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: ( فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى ) من أسماء يوم القيامة عظمه الله، وحذّره عباده .حدثني محمد بن عمارة، قال: ثنا سهل بن عامر، قال: ثنا مالك بن مغول، عن القاسم بن الوليد، في قوله: ( فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى ) قال: سيق أهل الجنة إلى الجنة، وأهل النار إلى النار.

يَوْمَ يَتَذَكَّرُ ٱلْإِنسَٰنُ مَا سَعَىٰ (35)


وقوله: ( يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإنْسَانُ مَا سَعَى ) يقول: إذا جاءت الطامة يوم يتذكر الإنسان ما عمل في الدنيا من خير وشر، وذلك سعيه .

وَبُرِّزَتِ ٱلْجَحِيمُ لِمَن يَرَىٰ (36)


( وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ ) يقول: وأظْهِرت الجحيم، وهي نار الله لمن يراها، يقول: لأبصار الناظرين.

فَأَمَّا مَن طَغَىٰ (37)


القول في تأويل قوله تعالى : فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37)يقول تعالى ذكره: فأما من عتا على ربه، وعصاه واستكبر عن عبادته.حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: ( طَغَى ) قال: عصى.

وَءَاثَرَ ٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَا (38)


قوله: ( وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ) يقول: وآثر متاع الحياة الدنيا على كرامة الآخرة، وما أعدّ الله فيها لأوليائه، فعمل للدنيا، وسعى لها، وترك العمل للآخرة .

فَإِنَّ ٱلْجَحِيمَ هِىَ ٱلْمَأْوَىٰ (39)


( فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى ) يقول: فإن نار الله التي اسمها الجحيم، هي منزله ومأواه، ومصيره الذي يصير إليه يوم القيامة.

وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِۦ وَنَهَى ٱلنَّفْسَ عَنِ ٱلْهَوَىٰ (40)


وقوله: ( وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ) يقول: وأما من خاف مسألة الله إياه عند وقوفه يوم القيامة بين يديه، فاتقاه بأداء فرائضه، واجتناب معاصيه، ( وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ) يقول: ونهى نفسه عن هواها فيما يكرهه الله، ولا يرضاه منها، فزجرها عن ذلك، وخالف هواها إلى ما أمره به ربه .

فَإِنَّ ٱلْجَنَّةَ هِىَ ٱلْمَأْوَىٰ (41)


( فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ) يقول: فإن الجنة هي مأواه ومنزله يوم القيامة.وقد ذكرنا أقوال أهل التأويل في معنى قوله: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.

يَسْـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلسَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَىٰهَا (42)


القول في تأويل قوله تعالى : يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42).يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يسألك يا محمد هؤلاء المكذّبون بالبعث عن الساعة التي تبعث فيها الموتى من قبورهم ( أَيَّانَ مُرْسَاهَا ) ، متى قيامها وظهورها. وكان الفرّاء يقول: إن قال القائل: إنما الإرساء للسفينة، والجبال الراسية وما أشبههنّ، فكيف وصف الساعة بالإرساء؟ قلت: هي بمنزلة السفينة إذا كانت جارية فرست، ورسوّها: قيامها؛ قال: وليس قيامها كقيام القائم، إنما هي كقولك: قد قام العدل، وقام الحقّ: أي ظهر وثبت.

فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَىٰهَآ (43)


قال أبو جعفر رحمه الله: يقول الله لنبيه: ( فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا ) يقول: في أيّ شيء أنت من ذكر الساعة والبحث عن شأنها. وذُكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُكثر ذكر الساعة، حتى نزلت هذه الآية.حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا سفيان بن عيينة، عن الزهريّ، عن عُروة، عن عائشة، قالت: لم يزل النبيّ صلى الله عليه وسلم يسأل عن الساعة، حتى أنزل الله عزّ وجل: ( فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا * إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا ) .حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن إسماعيل، عن طارق بن شهاب، قال: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم لا يزال يذكر شأن الساعة حتى نزلت ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا ) ... إلى ( مَنْ يخْشاهَا ) .حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: ( فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا ) قال: الساعة.

إِلَىٰ رَبِّكَ مُنتَهَىٰهَآ (44)


وقوله: ( إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا ) يقول: إلى ربك منتهى علمها، أي إليه ينتهي علم الساعة، لا يعلم وقت قيامها غيره.

إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَىٰهَا (45)


وقوله: ( إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا ) يقول تعالى ذكره لمحمد: إنما أنت رسول مبعوث بإنذار الساعة من يخاف عقاب الله فيها على إجرامه ولم تكلف علم وقت قيامها، يقول: فدع ما لم تكلف علمَه واعمل بما أمرت به من إنذار من أُمرت بإنذاره.واختلف القرّاء في قراءة قوله: ( مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا ) فكان أبو جعفر القارئ وابن محيصن يقرآن ( مُنْذِرٌ ) بالتنوين، بمعنى: أنه منذر من يخشاها، وقرأ ذلك سائر قرّاء المدينة ومكة والكوفة والبصرة بإضافة ( مُنْذِرُ ) إلى ( من ).والصواب من القول في ذلك عندي: أنهم قراءتان معروفتان، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.

كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوٓا۟ إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَىٰهَا (46)


وقوله: ( كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا ) يقول جلّ ثناؤه: كأن هؤلاء المكذّبين بالساعة، يوم يرون أن الساعة قد قامت من عظيم هولها، لم يلبثوا في الدنيا إلا عشية يوم، أو ضحى تلك العشية، والعرب تقول: آتيك العشية أو غَدَاتَها، وآتيك الغداةَ أو عشيتها، فيجعلون معنى الغداة بمعنى أوّل النهار، والعشية: آخر النهار فكذلك قوله: ( إِلا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا ) إنما معناه إلا آخر يوم أو أوّله، وينشد هذا البيت:نَحْنُ صَبَحْنا عامِرًا فِي دَارِهاعَشِيَّةَ الهِلالِ أوْ سِرَارِها (4)يعني: عشية الهلال، أو عشية سرار العشية.حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد قال: ثنا سعيد عن قتادة، قوله: ( كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا ) وقت الدنيا في أعين القوم حين عاينوا الآخرة.آخر تفسير سورة النازعات.------------------------الهوامش:(4) البيت لبعض بني عقيل ، أنشده الفراء في معاني القرآن ( 357 ) عند قوله تعالى : إلا عشية أو ضحاها ، يقول القائل وهل للعشي ضحى ؟ ، إنما الضحى لصدر النهار ، فهذا بين ظاهر من كلام العرب ، أن يقولوا : آتيك العشية أو غذاتها ، أو آتيك الغداة أو عشيتها ؛ تكون العشية في معنى : آخر ، والغداة في معنى : أول ، أنشدني بعض بني عقيل : " نحن صبحنا ... " البيت . أراد : عشية الهلال ، أو عشية سرار العشية ، فهذا أشذ من آتيك الغداة أو عشيتها . ا ه .

الصفحة السابقة